هل بولس الرسول اقحم نفسه في تناقض أبيمينيدس ؟ تيطس 1: 12 – 13

 

Holy_bible_1

 

الشبهة 

 

دعوني أبدأ أولا ب"تناقض إبيمينيدس." كان إبيمينيدس رجلا كريتيا قال يوما: "كل أهل كريت كذابون." في كتب المنطق تسمى هذه العبارة "تناقض إبيمينيدس." ومن المفاجئ أن تجد في رسالة بولس الأولى إلى تيطس أنه قد كتب

قال واحد منهم و هو نبي لهم خاص: الكريتيون دائما كذابون وحوش ردية بطون بطالة* تيطس 1: 12

من المثير أن نجد أن بولس قد اقتبس تناقض إبيمينيدس, ناصا على أن المتكلم نفسه كان كريتيا. " الكريتيون دائما كذابون" إلا أن هذه العبارة تكون غير صحيحة بلا شك عندما يتم إطلاقها من قبل كريتي. لو أنها كانت صحيحة عندها يكون هنالك كريتيٌ, ولو لمرة واحدة, غير كذابٍ, عندها تكون العبارة خاطئة. كان كاتب الرسالة بولس, في هذه المناسبة على الأقل, فاقدا للإرشاد الإلهي لأنه لم يكن حاذقا.

الرد

 

الحقيقة لا يوجد خطأ هنا ولم يدخل معلمنا بولس الرسول نفسه في اي تناقض ولتوضيح ذلك ساقسم الرد الي 

جزء لغوي 

جزء فلسفي 

المعني المقصود 

 

لغويا 

كلمة دائما في اليوناني 

G104

ἀεί

aei

Thayer Definition:

1) perpetually, incessantly

2) invariably, at any and every time: when according to the circumstances something is or ought to be done again

Part of Speech: adverb

A Related Word by Thayer’s/Strong’s Number: from an obsolete primary noun (apparently meaning continued duration)

دائما, متكرر باستمرار, دائم, في اي و قت وفي كل وقت, عندما يكون وفقا للظروف او شئ يجب القيام به مرة اخري 

فالكلمة المقصود بها انها عادة وشيئ متكرر دائما وكلما اقتضت الظروف يتكرر هذا الامر كعادة 

ولكن الكلمة لغويا لا تعني امر مستمر بدون انقطاع ( كماكينة دائرة مثلا ) فانسان يصلي دائما لايعني انه يصلي 60 دقيقه في الساعه 24 ساعه في اليوم ولكن تعني انه كثير الصلاة 

والكلمة استخدمت بهذا المعني

رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 4: 11

 

لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ.

فبولس الرسول لا يسلم للموت كل لحظة وكل دقيقه ولكن كثيرا تعرض للموت 

 

رسالة بطرس الرسول الثانية 1: 12

 

لِذلِكَ لاَ أُهْمِلُ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ دَائِمًا بِهذِهِ الأُمُورِ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَالِمِينَ وَمُثَبَّتِينَ فِي الْحَقِّ الْحَاضِرِ.

فبطرس لا يكرر نفس الكلام كل دقيقه ولكن يكرره كثيرا ليذكرهم

إنجيل مرقس 15: 8

 

فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِمًا يَفْعَلُ لَهُمْ.

وهو ان يطلق لهم اسير وهذا يفعله مره في السنه وليس كل دقيقة 

ففهمنا ان الكلمة حرفيا لا تعني شيئ مستمر بدون انقطاع ولكن شيئ متكرر كعادة 

وبناء عليه ما قاله المشكك علي انه خطأ لان احد الاقاويل كان صحيح هو خطأ من المشكك لان الكلمة لغويا تعني ان الكذب متكرر وعادة ولا تعني انهم يكذبون في كل كلمة يتفوهون بها 

 

فلسفيا 

يوجد منطق يسمي المنطق المشوش 

Fuzzy logic

وهو يعتمد علي النسبية وليس علي امر ثابت مثل صح او خطأ فقط فالمنطق يقول ان الحقيقه تتراوح بين صفر و واحد اي بين كاذب تماما وصادق تماما فمن هو يغلب علي الصدق اي يقترب الي واحد هو صادق ومن هو يميل الي الكذب اي يقترب الي الصفر هو كاذب ولهذا هو يعرف بانه 

Fuzzy logic in the broad sense  

ولا يوجد شيئ مطلق غير الله فمثلا لو قلت علي شخص انه صادق فلا يوجد احد صادق بطريقة مطلقة غير الله ولكن وصفي لهذا الشخص بانه صادق هو امر نسبي بمعني انه دائما صادق بطريقة نسبية وليس بطريقة مطلقة لانه لا يوجد صدق مطلق 

وايضا لو قلت علي شخص انه كاذب فهو يكذب كثيرا بطريقة نسبية ولا يوجد كذب مطلق  

 وهي تمثل نسبة الصدق ونسبة الكذب ويوضع لها معادلة باستخدام العامل  اكس 

ورغم ان تعريف هذا المنطق هو حديث ( في منتصف القرن العشرين وباكثر تحديدا 1965 م) الا انه كان كاسلوب لغوي معروف فعندما اقول هذا انسان كاذب او دائم الكذب هذا يفهم انه لايعني حرفيا انه يكذب في كل لفظ يتفوه به ولكن يعني ان الشائع والغالب علي كلامة صفت الكذب لانه لا يوجد كذب مطلق ولهذا حتي لو تعريف هذا المنطق اتي متاخرا الا انه متعارف عليه منذ البدايات 

 

امر اخر متعارف عليه وهو ما قاله ارسطو وهو لكل قاعدة استثناء ولايوجد قاعدة بدون استثناء . فلكل قاعدة استثناء هذا لا يلغي صحة القاعدة وبناء عليه رغم ان الامر اتضح من النقطة السابقة واتضح ايضا لغويا ولكن حتي بتطبيق استثناءات القاعدة فلوا افترضت ان الكذب قاعدة للكريتيين فالاستثناء هو محتلم ايضا وليس خطأ ان يحدث وهذا يحدث ايضا في الامور الاخلاقية كما شرح ذلك فيثاغورس الرياضي العبقري الذي أسس المذهب الفيراغورسي وهو عبارة مجموعة من العلم والأخلاق ودين في آن واحد , وانتقل على الصعيد العلمي من الهندسة والموسيقى الى الطب والطبيعيات , أما من الناحية الأخلاقية ترمز النفس التي هي تناسق الجسد تتميز تميزا صريحا من الجسد لذلك كان المذهب الفيثاغورسي يهتم اهتماما بالغا بالكمال الشخصي الذي يتطلب كبح جماح الجسد 

ويوجد امور كثيرة اخري فلسفيه في شرح هذا الامر ولكن لا اطيل في هذه النقطه فالمعني الذي اقصده اتضح 

 

سياق الكلام والمعني المقصود 

رسالة بولس الرسول الي تيطس 1

1: 12 قال واحد منهم و هو نبي لهم خاص الكريتيون دائما كذابون وحوش ردية بطون بطالة

معلمنا بولس الرسول يطلب من تلميذه تيطس ان ينتبه الي كذب بعض الكريتيون فهو اشتهروا بالكذب وحيث وجد الكذب أي عدم الحق تتسلل الرذائل واحدة فواحدة. غير أن الرسول لم يرد أن يصفهم بهذا من جانبه حتى لا يكرهونه ويعتبرونه يسيئ اليهم فلا ينصتون له، بل إستند علي قول أحد شعرائهم يدعي ابيمينيدس الذي عاش في حوالي القرن السادس قبل الميلاد، وكان الشعراء في نظرهم في مرتبة الأنبياء = وهو نبي لهم خاص = فكانوا يقولون أن ما يقوله الشعراء هو بالوحي وبمكاشفة ربانية. وقال أفلاطون أن الشعراء أبناء الآلهة.

والشاعر ابيمينيدس هو الذي أوصي بإقامة مذبح لإله مجهول كما فعلوا في أثينا وهذا الشاعر هو الذي قال مخاطبا الإله الأسمي " لقد صنعوا لله قبرا أيها القدوس الأعلى والكريتيون دائماً كذابون وحوش ردية بطون بطالة (إشارة لشدة نهمهم في الأكل واللذات واللهو) ولكنك لست ميتاً إلي الأبد أنت قائم وحي لأنه بك نحيا ونتحرك ونوجد.

ولقد اقتبس بولس الرسول البيت الأخير في خطابه أمام الأريوس باغوس كما قدمت في شرح اعمال الرسل 17: 28  واقتبس البيت الثاني الكريتيون دائما كذابون هنا. بل كان هناك مثل شعبي في كريت "تكرت مع الكريتي" أي اكذب مع الكاذب أو عليه. وكان عمل تيطس أن يغير طبع هؤلاء بتعليمهم المسيحية. ونلاحظ هنا أن بولس لم يخجل من إستعمال شعر أحد الشعراء لكي يكسب على كل حال قوم ولأجل البنيان. والامر المهم ان هذا ليس كلام بولس الرسول ولكن هو كلام ابيمينيدس فلو كان هناك اشكالية فلسفية في الكلام هو ليس لبولس الرسول ولكن لابيمينيدس فبولس الرسول فقط يستخدم تعبيره ليوضح شرهم من كلامهم فان كان كلام احدهم خطا هو ليس خطأ من بولس الرسول  

ثانيا معروف ان الانسان الذي يتكلم عن خطأ جماعه هو منتمي اليها اصلا هو اقرار منه بالخطا واستثناء نفسه من هذا الخطأ لرفضه له. فابيمينيدس هو يرفض كذب الكرتيين وهو بهذا يستثني نفسه من هذه الصفة المكروهة ويدينهم هم. اذا هو عندما يقول الكريتيون كذابو دائما هو غير محسوب في هذا الاجمال لانه يرفضه ويستثني نفسه منه. فاذا اصلا لا توجد معضلة في كلامه لان صدقه في هذه المعلومة لايعتبر كسر لاجمال كذب الكريتيين

ولكن معلمنا بولس الرسول الدقيق جدا في تعبيراته لا يقف عند هذا الحد بل يكمل موضحا شيئ مهم جدا وهو 

1: 13 هذه الشهادة صادقة فلهذا السبب وبخهم بصرامة لكي يكونوا اصحاء في الايمان

فهو يوضح ان كلام ابيمينيدس هو صحيح فهو يستثني كلامه من صفة الكذب الغالبة للكريتيين بل يوضح ان ما اقتبس منه هو استثناء الصدق من غالبية الكذب

ولكن بولس الرسول يقتبس شهاده ولا يقتبس موقفها من ناحية الفهم الفلسفي بضم ابينيميديس الي الكريتيين بمعني انه حتي لو كان الفليسوف اخطأ بالتعمييم لانه منهم فبولس الرسول لم يخطئ لنه ليس من الكريتيين فهو يقدر ان يقول هذا التعبير ولا يسقط في الخلاف الفلسفي لان بولس الرسول ليس كريتي  

والمهم انه يقتبس ذلك لويضح لتيطس انهم يستحقوا التوبيخ فاقتباسه من تعبير احدهم ولو فيه اشكالية فلسفية لاتقع علي بولس الرسول ولكن تقع فقط علي قائلها ورغم ذلك فان مقولة ابيمينيديس هي فلسفيا صحيحة  

 

واخيرا المعني الروحي 

من تفسير ابونا تادرس واقوال الاباء

يعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على ذلك بقوله:]يحدث الرسول كل إنسانٍ حسبما يتناسب معه، إذ يقول: "صرت لليهودي كيهودي وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس والذين تحت الناموس كأني تحت الناموس" (1 كو 9: 2021)].

كما يقول القديس إكليمنضس السكندري]إنك تراه كيف يستخدم حتى أنبياء اليونان وينسب إليهم بعض الحق. فلا يخجل من أن يستخدم الأشعار اليونانية لأجل بنيان البعض ولأجل توبيخ آخرين[23]. [إنه لا يكف عن أن يستخدم كل وسيلة لأجل خير مخدوميه، فيطالب تلميذه أن يستخدم التوبيخ بصرامة، لكن لا بقصد الثورة والغضب عليهم ولا للتشفي منهم، بل "لكي يكونوا أصحاء في الإيمان".

حسن للراعي جدًا أن يكون وديعًا، لكن يليق به أن يكون حازمًا لأجل بنيان رعيته، لكي يتركوا الخرافات اليهودية ووصايا المرتدين عن الحق.

وما هي هذه الخرافات والوصايا البعيدة عن الحق؟

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: ]لما دخل اليهود الإيمان المسيحي ارتبط بعضهم ببعض بالتعاليم اليهودية الخاصة بضرورة الختان المادي وتحريم بعض المأكولات.] حقًا في العهد القديم كان الله يحرم بعض المأكولات ويسميها نجسة، لا لأنها تحمل في ذاتها دنسًا ولا لأن في أكلها يرتكب الإنسان خطية، بل لأن بعضها معرض للأمراض والميكروبات أو بعضها تحمل رموزًا وظلال للخطية... فكان يمنعهم الرب تحت ستار "النجاسة" بسبب عدم نضوجهم الفكري في ذلك الوقت. أما في عهد النعمة فيلزم أن ندرك أنه ليس شيء ما نجسًا إلا الخطية وحدها.

هذا أيضًا ما قاله العلامة أوريجينوس في مقاله عن "الطاهر والدنس حسب الناموس والإنجيل" إذ قال: [أن المأكولات المحللة والمحرمة هي ظلال ورموز للعهد الجديد[24].]

 

والمجد لله دائما